فصل: وجوب تنكير بعض المفردات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **


 وجوب تنكير بعض المفردات

واعلم أنه إذا كان بيناً في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه حتى يشكل وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقه وأنه الصواب إلى فكر وروية فلا مزية وإنما تكون المزية ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجهاً آخر ثم رأيت النفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر ورأيت للذي جاء عليه حسناً وقبولاً يعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني‏.‏

ومثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجعلوا لله شركاء الجن ‏"‏ ليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب أنت لا تجد شيئاً منه إن أنت أخرت فقلت‏:‏ وجعلوا الجن شركاء لله وأنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل ولا تصير النفس به إلى حاصل والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة‏.‏

ومعنى جليلاً لا سبيل إليه مع التأخير‏.‏

بيانه أنا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله تعالى وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا غير الجن‏.‏

وإذا أخر فقيل‏:‏ جعلوا الجن شركاء لله لم يفد ذلك ولم يكن في شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى‏.‏

فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن شركاء مفعول أول لجعل و لله في موضع المفعول الثاني ويكون الجن على كلام ثاني على تقدير أنه كأنه قيل‏:‏ فمن جعلوا شركاء لله تعالى فقيل‏:‏ الجن وإذا كان التقدير في شركاء أنه مفعول أول و لله في موضع المفعول الثاني وقع الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتخاذه من الجن لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان الذي تعلق بها من النفي عاماً في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما في الدار كريم كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل من يكون الكرم صفة له‏.‏

وحكم الإنكار أبداً حكم النفي‏.‏

وإذا أخر فقيل‏:‏ وجعلوا الجن شركاء لله كان الجن مفعولاً أول والشركاء مفعولاً ثانياً وإذا كان كذلك كان الشركاء مخصوصاً غير مطلق من حيث كان محالاً أن يجري خبراً على الجن ثم يكون عاماً فيهم وفي غيرهم إذا كان كذلك احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى الجن خصوصاً أن يكونوا شركاء دون غيرهم جل الله وتعالى عن أن يكون له شريك وشبية بحال‏.‏

فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدم الشركاء واعتبره فإنه ينبهك لكثير من الأمور ويدلك على عظم شأن النظم وتعلم به كيف يكون الإيجاز به وما صورته كيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ إذ قد ترى أن ليس إلا تقديم وتأخير وأنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى ما إن حاولت مع تركه لم يحصل لك واحتجت إلى أن تستأنف له كلاماً نحو أن تقول‏:‏ وجعلوا الجن شركاء لله وما ينبغي أن يكون لله شريك من الجن ولا من غيرهم‏.‏

ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف والفخامة ومن كرم الموقع في النفس ما تجده له الآن وقد عقل من هذا الكلام الواحد‏.‏

ومما ينظر إلى مثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ‏"‏‏.‏

إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسك وجدت لهذا التنكير وأن قيل على حياة ولم يقل على الحياة حسناً وروعة ولطف موقع لا يقادر قدره‏.‏

وتجدك تعدم ذلك مع التعريف وتخرج عن الأريحية والأنس إلى خلافهما‏.‏

والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها وذلك لا يحرص عليه إلا الحي‏.‏

فأما العادم للحياة فلا يصح منه الحرص على الحياة ولا على غيرها‏.‏

وإذا كان كذلك صار كأنه قيل‏:‏ ولتجدنهم أحرص الناس ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه حياة في الذي يستقبل‏.‏

فكما أنك لا تقول هاهنا أن يزدادوا إلى حياتهم الحياة بالتعريف وإنما تقول حياة إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق كقولنا‏:‏ كل أحد يحب الحياة ويكره الموت‏.‏

كذلك الحكم في الآية‏.‏

والذي ينبغي أن يراعى أن المعنى الذي يوصف الإنسان بالحرص عليه إذا كان موجوداً حال وصفك له بالحرص عليه لم يتصور أن تجعله حريصاً عليه من أصله‏.‏

كيف ولا يحرص على الراهن ولا الماضي‏.‏

وإنما يكون الحرص على مالم يوجد بعد‏.‏

وشبيه بتنكير الحياة لا في هذه الآية تنكيرها في قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولكم في القصاص حياة ‏"‏‏.‏

وذلك أن السبب في حسن التنكير وأن لم يحسن التعريف أن ليس المعنى على الحياة نفسها ولكن على أنه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل ارتدع بذلك عن القتل فسلم صاحبه صارت حياة هذا المهموم بقتله في مستأنف الوقت مستفادة بالقصاص وصار كأنه قد حبي في باقي عمره به أي بالقصاص‏.‏

وإذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته وجب التنكير وامتنع التعريف من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من أصلها وأن يكون القصاص قد كان سبباً في كونها في كافة الأوقات وذلك خلاف المعنى وغير ما هو المقصود ويبين ذلك أنك تقول‏:‏ لك في هذا غنى فتنكر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغنى به‏.‏

فإن قلت‏:‏ لك في الغنى كان الظاهر أنك جعلت غناه به‏.‏

وأمر آخر وهو أنه لا يكون ارتداع حتى يكون هم وإرادة‏.‏

وليس بواجب أن لا يكون إنسان في الدنيا إلا وله عدو يهم بقتله ثم يردعه خوف القصاص‏.‏

وإذا لم يجب ذلك فمن لم يهم إنسان بقتله فكفي ذلك الهم لخوف القصاص فليس هو ممن حيي بالقصاص‏.‏

وإذا دخل الخصوص فقد وجب أن يقال حياة ولا يقال الحياة كما وجب أن يقال شفاء ولا يقال الشفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ‏"‏ حيث لم يكن شفاء للجميع‏.‏

واعلم أنه لا يتصور أن يكون الذي هم بالقتل فلم يقتل خوف القصاص داخلاً في الجملة وأن يكون القصاص أفاده حياة كما أفاد المقصود قتله‏.‏

وذلك أن هذه الحياة إنما هي لمن كان يقتل لولا القصاص وذلك محال في صفة القاصد للقتل‏.‏

فإنما يصح في وصفه ما هو كالضد لهذا وهو أن يقال إنه كان لا يخاف عليه القتل لولا القصاص‏.‏

وإذا كان هذا كذلك كان وجهاً ثالثاً من وجوب التنكير‏.‏

واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعاً من السامع ولا يجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومىء إليه من الحسن واللطف أصلاً وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد الأريحية تارة ويعرى منها أخرى‏.‏

وحتى إذا عجبته عجب وإذ نبهته لموضع المزية انتبه‏.‏

فأما من كانت الحالان والوجهان عنده أبداً على سواء وكان لا يفقه من أمر النظم إلا الصحة المطلقة وإلا إعراباً ظاهراً فما أقل ما يجدي الكلام معه‏.‏

فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر والذوق الذي يقيمه به والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره ومزاحفه من سالمه وما خرج من البحر مما لم يخرج منه في أنك لا تتصدى له ولا تتكلف تعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التي معها يعرف والحاسة التي بها يجد‏.‏

فليكن قدحك في زند وار والحك في عود أنت تطمع منه في نار‏.‏

واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب فإن من الآفة أيضاً من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في قليل ما تعرف المزية فيه وكثيره وأن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم وهذا التنكير أو هذا العطف أو هذا الفصل حسن‏.‏

وأن له موقعاً من النفس وحظاً من القبول‏.‏

فأما أن تعلم لم كان كذلك وما السبب فمما لا سبيل إليه ولا مطمع في الاطلاع عليه فهو بتوانيه والكسل فيه في حكم من قال ذلك‏.‏

واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل‏.‏

وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه وإن قل فتجعله شاهداً فيما لم تعرف أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتأخذها عن الفهم والتفهم وتعودها الكسل والهوينى قال الجاحظ‏:‏ وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرة مرة‏.‏

فمن أضر ذلك قولهم‏:‏ لم يدع الأول للآخر شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلاً‏.‏

واعلم أن العلم إنما هو معدن فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألف وقر قد أخرجت من معدن تبر أن تطلب فيه وأن تأخذ ما تجد ولو كقدر تومة كذلك ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم ومن الله تعالى نسأل التوفيق‏.‏

 فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم

اعلم أن طريق المجاز والاتساع في الذي ذكرناه قبل أنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه‏.‏

فتجوزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه‏.‏

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازاً على غير هذا السبيل وهو أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط وتكون الكلمة متروكة على ظاهرها ويكون معناها مقصوداً في نفسه ومراداً من غير تورية ولا تعريض‏.‏

والمثال فيه قولهم‏:‏ نهارك صائم وليلك قائم ونام ليلي وتجلى همي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما ربحت تجارتهم ‏"‏ وقول الفرزدق من الطويل‏:‏ سقتها خروق في المسامع لم تكن علاطاً ولا مخبوطة في الملاغم أنت ترى مجازاً في هذا كله ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ ولكن في أحكام أجريت عليها أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك‏:‏ نهارك صائم وليلك قائم في نفس صائم وقائم ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل‏.‏

وكذلك ليس المجاز في الآية في لفظه ربحت نفسها ولكن في إسنادها إلى التجارة‏.‏

وهكذا الحكم في قوله سقتها خروق ليس التجوز في نفس سقتها ولكن في أن أسنده إلى الخروق‏.‏

أفلا تر أنك لا ترى شيئاً منها إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته فلم يرد بصائم غير الصوم ولا بقائم غير القيام ولاب ربحت غير الربح ولاب سقت غير السقي كما أريد ب سالت في قوله من الطويل‏:‏ وسالت بأعناق المطي الأباطح غير السيل‏.‏

واعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى وتحدث فيه النباهة قائم لك مثله هاهنا‏.‏

فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله من الرجز‏:‏ فنام ليلي وتجلى همي كحاله وموقعه إذا أنت تركت المجاز وقلت‏:‏ فنمت في ليلي وتجلى همي كما لم يكن الحال في قولك‏:‏ رأيت رجلاً كالأسد‏.‏

ومن ذا الذي يخفى عليه مكان العلو وموضع المزية وصورة الفرقان بين قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما ربحت تجارتهم ‏"‏ وبين أن يقال‏:‏ فما ربحوا في تجارتهم وإن أردت أن تزداد للأمر تبيناً فانظر إلى بيت الفرزدق من الكامل‏:‏ يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا ضرب تطير له السواعد أرعل وإلى رونقه ومائه وإلى ما عليه من الطلاوة‏.‏

ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة وقل‏:‏ نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل ثم اسبر حالك هل ترى مما كنت تراه شيئاً‏.‏

وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان‏.‏

وأن تجيء بالكلام مطبوعاً مصنوعاً وأن يضعه بعيد المرام قريباً من الأفهام‏.‏

ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول‏:‏ أتى بي الشوق إلى لقائك وسار بي الحنين إلى رؤيتك وأقدمني بلدك حق لي على إنسان وأشباه ذلك مما تجده لسعته وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها فليس هو كذلك أبداً بل يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق والكاتب البليغ وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها والنادرة تأنق بها‏.‏

وجملة الأمر أن سبيله سبيل الضرب الأول الذي هو مجاز في نفس اللفظ وذات الكلمة‏.‏

فكما أن من الاستعارة والتمثيل عامياً مثل‏:‏ رأيت أسداً ووردت بحراً وشاهدت بدراً وسل من رأيه سيفاً ماضياً‏.‏

وخاصياً لا يكمل له كل أحد مثل قوله‏:‏ وسالت بأعناق المطي الأباطح كذلك الأمر في هذا المجاز الحكمي‏.‏

واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة مثل أن تقول في ‏"‏ ربحت تجارتهم ‏"‏‏:‏ ربحوا في تجارتهم وفي يحمي نساءنا ضرب‏:‏ نحمي نساءنا بضرب فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء‏.‏

ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك‏:‏ أقدمني بلدك حق لي على إنسان‏:‏ فاعلاً سوى الحق وكذلك لا تستطيع في قوله من مجزوء الوافر‏:‏ وقوله من مجزوء الوافر يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا أن تزعم أن لصيرني فاعلاً قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما فعل ذلك ربحت تجارتهم ويحمي نساءنا ضرب ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قوله يزيدك وجهه فاعلاً غير الوجه‏.‏

فالاعتبار إذاً بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجوداً في الكلام على حقيقته‏.‏

معنى ذلك أن القدوم في قولك‏:‏ أقدمني بلدك حق على إنسان موجود على الحقيقة وكذلك الصيرورة في قوله‏:‏ وصيرني هواك والزيادة في قوله يزيدك وجهه موجودتان على الحقيقة‏.‏

وإذا كان معنى اللفظ موجوداً على الحقيقة لم يكن المجاز فيه نفسه‏.‏

وإذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ كان لا محالة في الحكم‏.‏

فاعرف هذه الجملة وأحسن ضبطها حتى تكون على بصيرة من الأمر‏.‏

ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف من الوافر‏:‏ أبي عبر الفوارس يوم داج وعمي مالك وضع السهاما فلو صاحبتنا لرضيت عنا إذا لم تغبق المئة الغلاما يريد إذا كان العام عام جدب وجفت ضروع الإبل وانقطع الدر حتى إن جلب منها مئة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد‏.‏

فالفعل الذي هو غبق مستعمل في نفسه على حقيقته غير مخرج عن معناه وأصله إلى معنى شيء آخر‏.‏

فيكون قد دخله مجاز في نفسه‏.‏

وإنما المجاز في أن أسند إلى الإبل وجعل فعلاً لها‏.‏

وإسناد الفعل إلى الشيء حكم في الفعل وليس هو نفس مجنى الفعل فاعرفه‏.‏

واعلم أن من سبب اللطف في ذلك أنه ليس كل شيء يصلح لأن يتعاطى فيه المجاز الحكمي بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم‏.‏

وإن أردت مثالاً في ذلك فانظر إلى قوله من الطويل‏:‏ تناس طلاب العامرية إذ نأت بأسجح مرقال الضحى قلق الضفر إذا ما أحسته الأفاعي تميزت شواة الأفاعي في مثلمة سمر تجوب له الظلماء عين كأنها زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر يصف جملاً ويريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها‏.‏

ولولاها لكانت الظلماء كالسد والحاجز الذي لا يجد شيئاً يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلاً‏.‏

فأنت الآن تعلم أنه لولا أنه قال‏:‏ تجوب له فعلق له بتجوب لما صلحت العين لأن يسند تجوب إليها ولكان لا تتبين جهة التجوز في جعل تجوب فعلاً للعين كما ينبغي‏.‏

وكذلك تعلم أنه لو قال مثلاً‏:‏ تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا ضرب عليه معناه وانقطع السلك من فتأمل هذا واعتبره‏.‏

فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهد لها وتقدم أو تؤخر ما يعلم به أنك مستعير ومشبه ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة‏.‏

ألا ترى إلى قوله من الطويل‏:‏ وصاعقة من نضله تنكفي بها على أرؤس الأقران خمس سحائب عنى بخمس السحائب أنامله ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعة ولم يرمها إليك بغتة بل ذكر ما ينبىء عنها ويستدل به عليها فذكر أن هناك صاعقة وقال‏:‏ من نصله فبين آن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال‏:‏ على أرؤس الأقران ثم قال‏:‏ خمس فذكر الخمس التي هي عدد أنامل اليد فبان من مجموع هذه الأمور غرضه‏.‏

وأنشدوا لبعض العرب من الرجز‏:‏ فإن تعافوا العدل والإيمانا فإن في أيماننا نيرانا يريد أن في أيماننا سيوفاً نضربكم بها‏.‏

ولولا قوله أولاً‏:‏ فإن تعافوا العدل والإيمان وأن في ذلك دلالة على أن جوابه أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف ثم قوله فإن في أيماننا لما عقل مراده ولما جاز أن يستعير النيران للسيوف لأنه كان لا يعقل الذي يريد لأنا وإن كنا نقول‏:‏ في ناهضتهم والبارقات كأنها شعل على أيديهم تتلهب فإن هذا التشبيه لا يبلغ ما يعرف مع الإطلاق كمعرفتنا إذا قال‏:‏ رأيت أسداً أنه يريد الشجاعة‏.‏

وإذا قال‏:‏ لقيت شمساً وبدراً أنه يريد الحسن ولا يقوى تلك القوة فاعرفه‏.‏

ومما طريق المجاز فيه الحكم قول الخنساء من البسيط‏:‏ ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار وذاك أنها لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما فتكون قد تجوزت في نفس الكلمة وإنما تجوزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر ولغلبة ذاك عليها واتصاله بها وأنه لم يكن لها حال غيرهما كأنها قد تجسمت من الإقبال والإدبار‏.‏

وإنما كان يكون المجاز في نفس الكلمة لو أنها كانت قد استعارت الإقبال والإدبار لمعنى غير معناهما الذي وضعا له في اللغة‏.‏

ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شيء‏.‏

واعلم أن ليس بالوجه أن يعد هذا على الإطلاق معد ما حذف منه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مثل قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ واسأل القرية ‏"‏ ومثل قول النابغة الجعدي من المتقارب‏:‏ وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب وقول الأعرابي من الوافر‏:‏ وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف ويقولون‏:‏ إنه في تقدير فإنما هي ذات إقبال وإدبار ذاك لأن المضاف المحذوف من نحو الآية والبيتين في سبيل ما يحذف من اللفظ ويراد في المعنى كمثل أن يحذف خبر المبتدأ أو المبتدأ إذا دل الدليل عليه إلى سائر ما إذا حذف كان في حكم المنطوق به‏.‏

وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء لأنا إذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى إذا نحن قلنا‏:‏ فإنما هي ذات إقبال وإدبار أفسدنا الشعر على أنفسنا وخرجنا إلى شيء مغسول وإلى كلام عامي مرذول‏.‏

وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلاً في بيت المتنبي من الوافر‏:‏ بدت قمراً ومالت خوط بان وفاحت عنبراً ورنت غزالا أنه في تقدير محذوف وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت‏:‏ بدت مثل قمر ومالت مثل خوط بان وفاحت مثل عنبر ورنت مثل غزال في أنا نخرج إلى الغثاثة وإلى شيء يعزل البلاغة عن سلطانها ويخفض من شأنها ويصد بأوجهنا عن محاسنها ويسد باب المعرفة بها وبلطائفها علينا‏.‏

فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالاً وإدباراً حتى كأنها قد تجسمت منهما لكان حقه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ الذات فيقال‏:‏ إنما هي ذات إقبال وإدبار‏.‏

فأما أن يكون الشعر الآن موضوعاً على إرادة ذلك وعلى تنزيله منزلة المنطوق به حتى يكون الحال فيه كالحال في‏:‏ حسبت بغام راحلتي عناقاً حين كان المعنى والقصد أن يقول‏:‏ حسبت بغام راحلتي بغام عناق‏.‏

مما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة نسابة للمعاني‏.‏

 تهور بعض المفسرين

هذه مسألة قد كنت عملتها قديماً وقد كتبتها هاهنا لأن لها اتصالاً بهذا الذي صار بنا القول إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ‏"‏ أي لمن كان أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر فيه‏.‏

فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه‏.‏

كما جعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة بمنزلة من لا سمع له ولا بصر‏.‏

فأما تفسير من يفسره على أنه بمعنى من كان له عقل فإنه إنما يصح على أن يكون قد أراد الدلالة على الغرض على الجملة‏.‏

فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن القلب اسم للعقل كما يتوهمه أهل الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام فمحال باطل لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية وإلى تحريف الكلام عن صورته وإزالة المعنى عن جهته‏.‏

وذاك أن المراد به الحث على النظر والتقريع على تركه وذم من يخل به ويغفل عنه‏.‏

ولا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدمته وإلا بأن يكون قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكر كأنه ليس بذي قلب كما يجعل كأنه جماد وكأنه ميت لا يشعر ولا يحس‏.‏

وليس سبيل من فسر القلب هاهنا على العقل إلا سبيل من فسر عليه العين والسمع في قول الناس‏:‏ هذا بين لمن كانت له عين ولمن كان له سمع‏.‏

وفسر العمى والصمم والموت في صفة من يوصف بالجهالة على مجرد الجهل وأجرى جميع ذلك على الظاهر فاعرفه‏.‏

ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا أبداً في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف‏.‏

وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل‏.‏

هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه وزند ضلالة قد قدحوا به‏.‏

ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق‏.‏

هذا فن من القول دقيق المسلم لطيف المأخذ وهو أنا نراهم كما يصنعون في نفس الصفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض‏.‏

كذلك يذهبون في إثبات الصفة هذا المذهب‏.‏

وإذا فعلوا ذلك بدت هناك محاسن تملأ الطرف ودقائق تعجز الوصف‏.‏

ورأيت هناك شعراً شاعراً وسحراً ساحراً وبلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق والخطيب المصقع‏.‏

وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرحاً بذكرها مكشوفاً عن وجهها ولكن مدلولاً بغيرها كان ذلك أفخم لشأنها وألطف لمكانها‏.‏

كذلك إثباتك الصفة للشيء تثبتها له إذا لم تلقه إلى السامع صريحاً وجئت إليه من جانب التعريض والكناية والرمز والإشارة كان له من الفضل والمزية ومن الحسن والرونق ما لا يقل قليله ولا يجهل موضع الفضيلة وتفسير هذه الجملة وشرحها أنهم يرومون وصف الرجل ومدحه وإثبات معنى من المعاني الشريفة له فيدعون التصريح بذلك ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه ويتلبس به‏.‏

ويتوصلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات لا من الجهة الظاهرة المعروفة بل من طريق يخفى ومسلك يدق‏.‏

ومثاله قول زياد الأعجم من الكامل‏:‏ إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج وبعده‏:‏ ياخير من صعد المنابر بالتقى بعد النبي المصطفى المتحرج لما أتيتك راجياً لنوالكم ألفيت باب نوالكم لم يرتج أراد كما لا يخفى أن يثبت هذه المعاني والأوصاف خلالاً للمدوح وضرائب فيه‏.‏

فترك أن يصرح فيقول‏:‏ إن السماحة والمروءة والندى مجموعة في ابن الحشرج أو مقصورة عليه أو مختصة به وما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للذكورين بها‏.‏

وعدل إلى ما ترى من الكناية والتلويح فجعل كونها في القبة المضروبة عليه عبارة عن كرنها فيه وإشارة إليه‏.‏

فخرج كلامه بذلك إلى ما خرج إليه من الجزالة وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة‏.‏

ولو أنه أسقط هذه الواسطة من البيت لما كان إلا كلاماً غفلاً وحديثاً ساذجاً‏.‏

فهذه الصنعة في طريق الإثبات هي نظير الصنعة في المعاني إذا جاءت كنايات عن معان أخر نحو قوله من الوافر‏:‏ وما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل فكما أنه إنما كان من فاخر الشعر ومما يقع في الاختيار لأجل أن أراد أن يذكر نفسه بالقرى والضيافة فكن عن ذلك بجبن الكلب وهزال الفصيل وترك أن يصرخ فيقول‏:‏ قد عرف أن جنابي مألوف وكلبي مؤدب لا يهر في وجوه من يغشاني من الأضياف وأني أنحر المتالي من إبلي وأدع فصالها هزلى‏.‏

كذلك إنما راقك بيت زياد لأنه كنى عن إثباته السماحة والمروءة والندى كائنة الممدوح بجعلها كائنة في القبة المضروبة عليه‏.‏

هذا وكما أن من شأن الكناية الواقعة في نفس الصفة أن تجيء على صور مختلفة كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصفة أن تجيء على هذا الحد ثم يكون في ذلك ما يتناسب كما كان ذلك في الكناية الصفة نفسها‏.‏

تفسير هذا أنك تنظر إلى قول يزيد بن الحكم يمدح به يزيد بن المهلب وهو في حبس الحجاج من المنسرح‏:‏ أصبح في قيدك السماحة وال مجد وفضل الصلاح والحسب فتراه نظيراً لبيت زياد وتعلم أن مكان القيد هاهنا هو مكان القبة هناك‏.‏

كما أنك تنظر إلى قوله‏:‏ جبان الكلب فتعلم أنه نظير لقوله من الطويل‏:‏ زجرت كلابي أن يهر عقورها من حيث لم يكن ذلك الجبن إلا لأن دام منه الزجر‏.‏

واستمر حتى أخرج الكلب بذلك عما هو عادته من الهرير والنبح في وجه من يدنو من دار هو مرصد لأن يعس دونها‏.‏

وتنظر إلى قوله‏:‏ مهزول الفصيل فتعلم أنه نظير قول ابن هرمة‏.‏

لا أمتع العود بالفصال وتنظر إلى قول نصيب من المتقارب‏:‏ فبابك أسهل أبوابهم ودارك مأهولة عامره وكلبك آنس بالزائري ن من الأم بالابنة الزائره فتعلم أنه من قول الآخر من الطويل‏:‏ يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً يكلمه من حبه وهو أعجم وأن بينهما قرابة شديدة ونسباً لاصقاً وأن صورتهما في فرط التناسب صورة بيتي زياد ويزيد‏.‏

ومما هو إثبات للصفة على طريق الكناية والتعريض قولهم‏:‏ المجد بين ثوبيه والكرم في برديه وذلك أن قائل هذا يتوصل إلى إثبات المجد والكرم للممدوح بأن يجعلهما في ثوبه الذي يلبسه كما توصل زياد إلى إثبات السماحة والمروءة والندى لابن الحشرج بأن جعلها في القبة التي هوجالس فيها‏.‏

ومن ذلك قوله من البسيط‏:‏ وحيثما يك أمر صالح فكن وما جاء في معناه من قوله من المتقارب‏:‏ يصير أبان قرين السما ح والمكرمات معاً حيث صارا وقول أبي نواس من الطويل‏:‏ كل ذلك توصل إلى إثبات الصفة في الممدوح بإئباتها في المكان الذي يكون فيه وإلى لزومها له بلزومها الموضع الذي يحفل‏.‏

وهكذا إن اعتبرت قول الشنفرى يصف امرأة بالعفة من الطويل‏:‏ يبيت بمنجاة من اللوم بيتها إذا ما بيوت بالملامة حلت وجدته يدخل في معنى بيت زياد وذلك أنه توصل إلى نفي اللوم عنها وإبعادها عنه بأن نفاه عن بيتها وباعد بينه وبينه‏.‏

وكان مذهبه في ذلك مذهب زياد في التوصل إلى جعل السماحة والمروءة والندى في ابن الحشرج بأن جعلها في القبة المضروبة عليه‏.‏

وإنما الفرق أن هذا ينفي وذاك يثبت‏.‏

وذلك فرق لا في موضع الجمع فهو لا يمنع أن يكونا من نصاب واحد‏.‏

ومما هو في حكم المناسب لبيت زياد وأمثاله التي ذكرت وإن كان قد اخرج في صورة أغرب وأبدع قول حسان رضي الله عنه من الطويل‏:‏ بنى المجد يتاً فاستقرت عماده علينا فأعيا الناس أن يتحولا وقول البحتري من الكامل‏:‏ أو مارأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثم لم يتحول ذاك لأن مدار الأمر على أنه جعل المجد والممدوح في مكان وجعله يكون حيث يكون‏.‏

واعلم أنه ليس كل ما جاء كناية في إثبات الصفة يصلح أن يحكم عليه بالتناسب‏.‏

ظللنا نعود الجود من وعكك الذي وجدت وقلنا‏:‏ اعتل عضو من المجد وإن كان يكون القصد منه إثبات الجود والمجد للممدوح فإنه لا يصح أن يقال إنه نظير لبيت زياد كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس‏:‏ ولكن يصير الجود حيث يصير وغيره مما ذكرنا أنه نظير له كما أنه لا يجوز أن يجعل قوله‏:‏ وكلبك أرأف بالزائرين مثلاً نظيراً لقوله‏:‏ مهزول الفصيل وإن كان الغرض منهما جميعاً الوصف بالقرى ضيافة وكانا جميعاً كنايتين عن معنى واحد لأن تعاقب الكنايات على المعنى الواحد لا يوجب تناسبها لأنه في عروض أن تتفق الأشعار الكثيرة في كونها مدحاً بالشجاعة مثلاً أو الجود أو ما أشبه ذلك‏.‏

وقد يجتمع في البيت الواحد كنايتان المغزى منهما شيء واحد ثم لا تكون إحداهما في حكم النظير للأخرى‏.‏

مثال ذلك أنه لا يكون قوله‏:‏ جبان الكلب نظيراً لقوله‏:‏ مهزول الفصيل بل كل واحدة من هاتين الكنايتين أصل بنفسه وجنس على حدة‏.‏

وكذلك قول ابن هرمة من المنسرح‏:‏ لا امتع العوذ بالفصال ولا أبتاع إلا قريبة الأجل ليس إحدى كنايتيه في حكم النظير للأخرى وإن كان المكنى بهما عنه واحداً فاعرفه‏.‏

وليس لشعب هذا الأصل وفروعه وأمثلته وصوره وطرقه ومسالكه حد ونهاية‏.‏

ومن لطيف ذلك ونادره قول أبي تمام من الوافر‏:‏ أبين فما يزرن سوى كريم وحسبك أن يزرن أبا سعيد ومثله وإن لم يبلغ مبلغه قول الآخر من الوافر‏:‏ متى تخلو تميم من كريم ومسلمة بن عمرو من تميم وكذلك قول بعض العرب من المتقارب‏:‏ إذا الله لم يسق إلا الكرام فسقى وجوه بني حنبل وسقى ديارهم باكراً من الغيث في الزمن الممحل وفن منه غريب قول بعضهم في البرامكة من الطويل‏:‏ سألت الندى والجود‏:‏ مالي أراكما تبدلتما ذلاً بعز مؤيد وما بال ركن المجد أمسى مهدماً فقالا‏:‏ أصبنا بابن يحيى محمد فقلت‏:‏ فهلا متما عند موته فقد كنتما عبديه في كل مشهد فقالا‏:‏ أقمنا كي نعزى بفقده مسافة يوم ثم نتلوه في غد